في العام 1995 اتخذ الكونغرس الأميركي و بمنطق التصرف بملك الغير، اتخذ قرارا يعتبر القدس الموحدة (أي كامل القدس الغربية و الشرقية التي احتلت في العام 1967 ) عاصمة لإسرائيل لا يجوز تقسيمها
و بقي القرار بحاجة الى توقيع الرئيس الأميركي حتى يصبح نافذا، لكن بيل كلنتون يومها امتنع عن توقيع قرار الكونغرس و لم يرده و حذا حذوه في ذلك من تلاه في سدة الرئاسة ( بوش الابن و أوباما ) و بقي القرار في ادراج البيت الأبيض جاهزا للتوقيع في أي لحظة تتغير فيها الظروف و يرى فيها الرئيس الأميركي قدرة او إمكانية لتمريره .
بيد ان العرب والمسلمين عامة والفلسطينيين خاصة، لم يتعاملوا مع الامر بشكل يتناسب مع خطورته، وجل ما صدر عنهم يومها بيانات خجولة رافضة او منددة علانية بالقرار ومتبوعة باتصالات مع اميركا خارج الاعلام تظهر المواقف الحقيقية لمعظم الأنظمة العربية والتي تبدي عدم اكتراثها بالأمر، في حين كان عليهم ان يتخذوا قرارا على اعلى المستويات يطالب بإبطال قرار الكونغرس وتحديد رزمة من التدابير تؤلم اميركا ويكون تنفيذها مقترنا بتنفد قرار الكونغرس بشكل فوري خاصة في مجال العلاقات السياسية والمالية والاقتصادية مع اميركا.
و اليوم و بعد سبع سنوات من انخراط العرب في حرب تدمير الذات انقسموا فيها بين معتد ومعتدى عليه و غير مبال ، وجد الرئيس الأميركي ان الظروف اختلفت و تهيأت لتنفيذ القرار لأكثر من سبب، أولها شأن شخصي متصل بوضع ترامب نفسه الذي يحتاج لعمل ما متميز بالفرادة و الوقاحة ليثبت قوته التي لا تقنع أحدا ، ثانيها إقليمي فأميركا بحاجة الى تصرف يظهرها بانها لم تهزم في الشرق الأوسط بعد سبع سنوات من الصراع خلافا للواقع الذي يؤكد ان محور المقاومة انتصر و افشل المشروع الصهيوأميركي ، و ثالثها انتقال مجموعة دول عربية من التعامل مع إسرائيل سرا الى العلاقة والتطبيع العلني، و رابعها ظهور قيادة سعودية مراهقة لا قيمة عندها ولا وزن لقضية القدس و فلسطين فالمهم لديها العرش .
لقد ظن ترامب ان هذه البيئة تمكنه من انفاذ وعده الانتخابي حول القدس ليظهر بمظهر القوة التي لم يصل الى مستواها أحد من اسلافه وأعلن القدس عاصمة لإسرائيل، اعلان أدرك او لم يدرك تبعاته لكن لا بد من القول ان هذا الإعلان العدواني يثير مخاطر على أكثر من صعيد.
فالإعلان يندرج قانونا تحت عنوان «التصرف بملك الغير» وهو وفق المبدأ العام باطل بطلانا مطلقا، لكن ترامب أصدره متسلحا بالقوة التي تملكها اميركا وتجعلها برأيه فوق القانون وهو بذلك يرسي سوابق انتهاك القانون الدولي العام لجهة القول بجواز احتلال أرض الغير بالقوة وجواز ضم الارض المحتلة بالقوة. جواز طرد السكان الأصليين من الأرض المحتلة وجواز التنكر للتاريخ واجتثاث حضارات الغير بالقوة. انه بالمختصر المفيد إسقاط لقواعد أساسية في القانون الدولي العام وإشاعة لشريعة الغاب.
وبما ان للقرار هذا مثل هذه الدلالات و المعاني فانه يعرض حقوقا فلسطينية وعربية أخرى للخطر خاصة: حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وحق تحريرالجولان السوري المحتل (الذي ضمته إسرائيل بقانون من الكنيست) وحق تحرير مزارع شبعا اللبنانية المحتلة التي تطمح إسرائيل بضمها لأكثر من اعتبار طبيعي و امني و اقتصادي و خطر تنفيذ الترحيل القسري للفلسطينيين خاصة المقدسيين و حق إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس .
نقول بهذه الاخطار لان من أجاز لنفسه او لغيره ضم ارض محتلة مرة أجاز ضم أراضي محتلة أخرى مرارا فالقبول بضم القدس سيرسى سابقة يرسى عليها علما بانه وفقا للقانون الدولي ليس لإسرائيل حق أصلا بالقدس الغربية حسب القرار 181 ولكن التساهل العربي والدولي حيال احتلال القدس الغربية مكن اميركا من القفز لقضم الشرقية ايضا لمصلحة إسرائيل.
رغم كل هذه المعاني و الدلالات و المخاطر اقدم ترامب على فعلته الوقحة العدوانية غير عابئ بما قد يكون ، و الأخطر في الامر ان ترامب كما يتردد في الاعلام الغربي و الأميركي خاصة استحصل على موافقة دول عربية على القرار قبل إعلانه خاصة الدول الخليجية التي ظهر قبولها الضمني أيضا بعد القرار و في مواقفها الخجولة التي ابدتها في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد منذ يومين ، حيث تصرف هؤلاء بما يذكر بالقول «كاد المريب ان يقول خذوني « حيث نرى ان الجامعة في اجتماعها الاستثنائي لم تتخذ قرارا جديا و قويا يفهم اميركا ان العرب يرفضون قرارها و عازمون على التصدي له ، بل ان اميركا كما اعتقد نظرت بعين الرضى لما صدر عن الجامعة من مواقف رخوة ليست بذات تأثير لا بل قد تكون للتخدير و التسويف لتمرير القرار العدواني .
فالجامعة العربية لو كانت جادة في رفض او لنقل بصورة ادق لو كانت القوى المسيطرة على الجامعة العربية اليوم و في طليعتهم السعودية و دول الخليج ، جادة في الرفض لكانوا اتخدوا قرار صارما ردا على العدوان الأميركي على القدس قرارا يتضمن الرفض و الادانة و اعتباره لاغيا ثم اعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، و اعلان وقف الاتصال كليا مع الجانب الأميركي و قطع العلاقات الدبلوماسية معه و اعتبار اميركا غير مؤهلة لرعاية عملية السلام في المنطقة ، ثم الذهاب للجمعية العمومية للأمم المتحدة و محكمة العدل الدولية لاستصدار قرارات مناسبة وفقا للقانون الدولي العام ، مع التهديد بقطع العلاقات الاستثمارية مع اميركا في مهلة محددة ان لم تتراجع عن القرار . اما ما صدر عن اجتماع الجامعة فانه في العمق يشكل تشجيعا لأميركا على المضي بقرارها العدواني وهنا يطرح السؤال بحثا عن السلوك الأفضل للمواجهة؟
قبل البحث في السؤال لا بد من التنويه بان الموقف الدولي بشكل عام كان معارضا للقرار الترامبي حيث تجلى ذلك بما حصل في مجلس الامن بعد 48 ساعة من القرار وعزل اميركا فيه في مواجهة الأعضاء الـ 14 الباقين، كما وفي موقف الاتحاد الأوربي وتشكل شبه اجماع دولي ضد اميركا في قرارها هذا، لكن هذه المواقف لا تكفي ان لم يكن هناك تحرك ميداني يستند الى الحق أولا والى تأييد دولي لهذا الحق ثانيا.
و الان نعود الى اصل السؤال ، و نرى ان الرد على العدوان الأميركي ينبغي ان يكون مستندا الى المبادرة الشعبية في ظل وهن و تراخي النظام الرسمي العربي ، وشبهة في سلوك قيادات فلسطينية معينة ، فالحل كما نرى يجب ان يتوجه الى هدف رئيسي هو تحرير كل فلسطين تحريرا لا يكون الا كما تمّ التحرير في جنوب لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي ، و في العراق ضد الاحتلال الأميركي ثم الإرهابي ، و في سورية ضد الإرهاب و حاضنيه ، حل يعتمد المقاومة المتعددة الاشكال أسلوبا للمواجهة و هنا يكون من المجدي لا بل من الملح ان يعتمد المدافعون عن القدس و الحقوق العربية في فلسطين خارطة طريق للتحرير تشمل:
1) الخروج من اتفاقية أوسلو التي كانت المنطلق لسلسلة التنازلات الآيلة لتصفية القضية الفلسطينية، وحل السلطة الفلسطينية ووقف التسبيق الأمني مع العدو.
2) إطلاق انتفاضة فلسطينية متمادية في الداخل على مساحة فلسطين التاريخية دون ان تتوقف حتى الحصول على كامل الحقوق الوطنية الفلسطينية.
3)تحرك شعبي عربي على مدار الأسبوع للتعبير عن الرفض الشعبي للقرار، تحرك يتجلى بالتظاهر والاعتصامات مع وضع برنامج لمقاطعة البضائع الأميركية، فضلا عن دوام حصار السفارات الأميركية التي لا نعتقد ان أي حكومة عربية تجرؤ على قطع العلاقات وطرد السفير الأميركي منها رغم ان هذا الفعل امر ملح ومطلوب.
4)قيام اتحاد المحامين العرب برفع الدعاوى ضد اميركا وترامب لارتكابه فعلا عدوانيا مخلا بحقوق الغير واعلان بطلانه.
فهل يكون قرار ترامب جرس انذار وتحشيد طاقات الأمة من اجل استعادة فلسطين في مسيرة تحرير تنطلق من النصر الكبير الذي تحقق في العراق وسورية وهزيمة المشروع الصهيواميركي في المنطقة؟